لم تكن الحرب التي أطلقت ألمانيا النازية شرارتها في أواسط القرن العشرين مشابهة لأي صراع عنيف على القوة في تاريخ المجتمع البشري المنتظم، لأنها لم تكن تمثل مطلبا في الاستقلال أو في مجال حيوي، ولا كانت صراعا مسلحا بين أمم قوية تسعى وراء رسم حدود مناطق نفوذ أو وراء التوسع، إذ كان يقف وراء تلك الحرب قائد مسكون بأفكار مجنونة عن التفوق العنصري وبطموح في احتلال أوروبا والعالم بأسره. وشهدت الحرب تعبئة لقوى كان عالمها الروحي مسموما بأيديولوجية شريرة هدامة وكانت تملك أكثر ما أثمره العلم المعاصر من وسائل متطورة لتحقيق أفكارها الهدامة. ومنذ بدأ اشتعال النيران لم تميز القوات العسكرية النازية بين الجيوش التي تواجهها وبين السكان المدنيين في مدنهم وقراهم وفي طريقهم للهروب منها.
لقد ألف المؤرخ البريطاني إيان كيرشو سيرة ضخمة لآدولف هتلر الذي لا تبرح شخصيته تسحر الناس في عصرنا. ويقول كيرشو بأنه في حين يرضى معظم الحكام الدكتاتوريين بسيطرتهم الكاملة على بلدانهم، لم يكن هتلر يرى مثل هذه السيطرة هدفا بحد ذاته، إذ كان للاستيلاء على السلطة هدفان عقائديان، أولهما إبادة اليهود الذين كان يعتبرهم أعداء ألمانيا الألداء، والهدف الثاني والمتأتي من خلال الأول هو الهيمنة على أوروبا برمتها كنقطة انطلاق للسيطرة على العالم. وكان معظم اليهود متجمعين في جاليات كبيرة في أوروبا الشرقية وجاليات صغيرة في الغرب وكانت مشاركتهم في الحياة السياسية ضئيلة، ومن المفارقات أنه في ألمانيا بالذات كان اليهود يطمحون منذ أجيال سبقت هتلر في الاندماج في الحياة الاجتماعية والاقتصادية من خلال إبداء الولاء للبلاد وثقافتها. ويقال أن نظرة الأمم والحكومات إلى اليهود تمثل محكا لتسامحها وإنسانيتها.
بدأت إبادة اليهود الأوروبيين في بداية الحرب من خلال قمع يهود بولندا وتجويعهم بعد احتلالها. وفي منتصف سنة 1941 تحول الأمر إلى طريقة للإبادة المنهجية الشاملة المرسومة والمنفذة من البوليس والجيش النازيين وأعوانهما وداخل معسكرات الاعتقال والإبادة النازية ، إلى أن باتت عملية قتل الملايين هذه المعروفة بالهولوكوست جريمة لا تضاهيها جريمة في الحضارة الأوروبية.
من الصعب البت في مسألة قدرة الأمم الأوروبية على إنقاذ يهودها من عدمها، فقد كان النازيون في البلدان المحتلة يلاحقون من يحاول التستر على اليهود أو مساعدتهم في مسعاهم لإنقاذ أرواحهم، بل كانوا ينفذون فيه حكم الإعدام في بعض هذه البلدان. ومن سوء الحظ أن من حاربوا الألمان بشكل نشيط لم يبذلوا جهدا يذكر في مساعدة اليهود ولم تهتم بذلك المنظمات السرية كذلك، بل في الواقع كان الكثيرون في الدول السائرة في فلك ألمانيا أو تلك الموبوءة باللاسامية إلى درجة كبيرة ضالعين في الجريمة الرهيبة بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولكن كان ثمة أناس يقدرون ما في أنفسهم من روح وضمير حي ويثمنون الحياة البشرية لم يستطيعوا التسليم بالوضع القائم، فانخرطوا كأفراد وبوازع من ضمائرهم إلى الجهود المبذولة لإنقاذ اليهود، حيث آووا اليهود في بيوتهم مما أجبرهم على إخفائهم من العيون الفاحصة للجيران أو حتى لبعض الأقرباء. وكانوا يطعمونهم من حصصهم الغذائية الهزيلة ويخاطرون بحياتهم وبحياة عوائلهم بل فعلا دفع عدد غير قليل منهم حياتهم ثمنا لذلك. هؤلاء الأشخاص الذين سبحوا بعكس التيار في تلك الأيام المظلمة كانوا كبصيص من نور في بحر هائج، يعتبرون رسالتهم طاغية على أي شيء سواها، وكانت بلدانهم ومراكزهم الاجتماعية متباينة وبيئات حياتهم ومواقفهم السياسية مختلفة وكان من بينهم المثقفون والأقل ثقافة، والذين سبق لهم الاحتكاك والتعامل مع اليهود والذين لم يصادفوا يهوديا قبل الحرب. ولم تكن الشخصيات العامة والسياسيون أو رجال الدين سوى قلة منهم، ولكنهم جميعا تقريبا كانوا ممن يدفعهم ضميرهم والتزامهم بالعدالة واستجابتهم لمعاناة طفل إلى العمل.
لقد رأت مؤسسة "ياد فاشيم" في أورشليم القدس منذ نشأتها في تأريخ يكاد يعود لنفس عهد قيام دولة إسرائيل، أن من واجبها المقدس تتبع آثار كل منقذ ومنقذة تخليدا لأعماله وأعمالها والإعلان عن كل منهم "نصيرا من أنصار الشعب اليهودي". ويبلغ عدد هؤلاء الأخيار البررة ما يفوق الـ21 ألف رجل وامرأة، وقد وردت سيرهم في موسوعة أنصار الشعب اليهودي التي تعتبر ملحمة مؤثرة لبطولة الشرفاء الذين لم ينقذوا الأحياء ولم يمكنوهم من الانتعاش وبناء أسر جديدة وحسب، بل عززوا إيماننا بإنسانية هؤلاء الأبطال العزل الذين قدموا لنا الأمل في المستقبل.
على الرغم من الظروف شبه المستحيلة كانت هناك حالات كثيرة من المقاومة اليهودية المسلحة أثناء المحرقة. وكان اليهود في أحياء الغيتو المختلفة والمعسكرات على قدر قليل من الاتصال مع بعضهم فقط ولم يحظوا بمساعدة خارجية.وكان هؤلاء اليهود ضعفاء جسمانياً ومزودين بعدد قليل من الأسلحة فقط وكان لهم القليل من التدريب على القتال كما كانوا يواجهون قوة وشراسة آلة الحرب الألمانية. وأدرك معظم المحاربين بأنه ليست لديهم احتمالات حقيقية بإلحاق الهزيمة بمضطهديهم، ولكنهم حاربوا إلى أقصى حد ممكن. وقام هؤلاء اليهود بممارسة المقاومة لغرض المقاومة فقط.
وتم تشكيل منظمات سرية مسلحة في حوالي مائة من أحياء الغتيو في مختلف أنحاء بولندا وليتوانيا وبيلاروس وأوكرانيا. وكان الهدف الذي سعت هذه المنظمات إلى تحقيقه القيام بعمليات التمرّد المسلحة أو القيام بعمليات اقتحام للخروج من الغيتو بالقوة من أجل الانضمام إلى المقاومة في الخارج. وتم عادة تحديد توقيت مثل هذه العمليات لتتزامن مع المواعيد التي حددها النازيون لترحيل اليهود إلى معسكرات الإبادة. وفي بعض الأحيان جرت عمليات المقاومة هذه بصورة تلقائية.
وكان المنطق يملي على اليهود الامتناع عن المقاومة المسلحة داخل المعسكرات، حيث لم تكن بحوزة اليهود أسلحة وكانوا يعتمدون على شفقة حراسهم. كما كانوا يعانون المجاعة والإرهاق والأمراض. وكانوا يعلمون بأن أي مقاومة ولو كانت فردية كانت ستؤدي إلى إلحاق العقاب بالعديد من الأشخاص. ورغم كل ذلك كانت هناك عمليات مقاومة في عدة معسكرات، بما فيها تريبلينكا وسوبيبور وآوشفيتس بيركيناو. وفي المعسكر الأخير نجح بعض أفراد الكوماندو الخاص في قتل عدد من أفراد الإس.إس. وأضرموا النار في عدد من الأفران.
لقد أصبح يهود فروا من أحياء الغيتو إلى الغابات والجبال والمستنقعات في أوروبا الشرقية محاربين في حركات المقاومة. من جهة أخرى، فقد واجه هؤلاء اليهود الكثير من العقبات في الانضمام إلى صفوف مجموعات المقاومة. وبالدرجة الأولى كان مجرد عملية الفرار من الغيتو تحدياً كبيراً. أضف إلى ذلك أن العديد من اليهود فروا من أحياء الغيتو قبل تنظيم أي نوع من حركات المقاومة السرية في المناطق السوفييتية التي احتلها النازيون. وكان يترتب عليهم تدبير أمورهم بأنفسهم لحين انتظام مثل هذه الوحدات. وحتى بعد تشكيل وحدات من المقاومة السرية لم يكن من البسيط العثور على وحدة ستكون مستعدة لقبول اليهود. ورغم هذه العقبات ازدادت رقعة نشاطات المقاومة اليهودية في أوروبا الشرقية وأصبحت ذات حجم كبير نسبياً. وقدّر بعض الباحثين عدد اليهود الذين كانوا جزءاً من وحدات المقاومة في الغابات بما يصل إلى ثلاثين ألفاً. وكانت هذه الوحدات تقوم بعمليات هجوم وانقاذ جريئة.